سينما مشفرة تبحث عن الحرية:قراءة في فيلم خبز وزقاق للمخرج الإيراني ”عباس كياروستامي”

جريدة البوابة المصرية
جريدة البوابة المصرية
رئيس جامعة بنها : تلقينا 3149 شكوى وفحص 99.43% منها خلال الربع الأول لعام 2024 بيع محال تجارية وصيدلية ووحدات مهنية وإدارية بالمزاد العلني بمدينتي بدر والسادات محافظ أسيوط يشهد قداس عيد القيامة المجيد بمطرانية الاقباط الارثوذكس بأبنوب تعرف علي اسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 5 مايو 2024 تعرف علي اسعار الدواجن بالأسواق اليوم الأحد 5 مايو 2024 تعرف علي اسعار الاسماك بسوق العبور اليوم الأحد 5 مايو 2024 تعرف علي اسعار الفاكهة بسوق العبوراليوم الأحد 5 مايو 2024 تعرف علي اسعار الخضار جملة بسوق العبور اليوم الأحد 5 مايو 2024 تعرف علي اسعار الذهب اليوم الأحد 5مايو 2024 تعرف علي اسعار العملات الأجنبية اليوم الأحد 5مايو 2024 بايرن ميونخ يتعرض لخسارة قاسية في الدوري قبل موقعة ريال مدريد الأهلي يكتسح الجونة بثلاثية في الدوري

مقالات

سينما مشفرة تبحث عن الحرية:قراءة في فيلم خبز وزقاق للمخرج الإيراني ”عباس كياروستامي”

الكاتبة سعاد زريبي باحثة بالمعهد العالي للعلوم ال
الكاتبة سعاد زريبي باحثة بالمعهد العالي للعلوم ال

لم تكن السياسة في أعمال المخرج الايراني "كيروستامي" معلنة حيث لا نشاهد مواقف تكشف عن التوجه السياسي لـ"عباس كيروستامي"لكن عبر في مناسبات عدة ان الأفلام التي لا تعبر بشكل صريح عن المواقف السياسية هي الأكثر اثارة للقضايا السياسية والأكثر توغلا في الأفكار السياسية لكن الاشتغال على السياسة في أفلام"كيروستامي"لم يكن مطروحا حتى في الدراسات التي كتبت حول "كيروستامي" والتي اعتبرت ان أفلامه تقتضي التوغل في التفكير في السياسة لكننا نعتبر ان هناك سياسة عميقة في أفلام"كيروستامي"خاصة في تلك الأفلام التي اخرجها قبل الثورة المعروفة بالإسلامية لأن بعدها سنكتشف وجه سينمائي اخر لـ"عباس كياروستامي".


المخرج الإيرانى عباس كياروستامي

إن الإنتاج السينمائي هو شكل من أشكال المقاومة وشكل من أشكال التعبير السياسي الذي ساهم في صناعة الهوية الوطنية للسينما الإيرانية.فلإن وقع انتاج العديد من الاعمال السينمائية قبل الثورة الإيرانية و توسعت دائرة الإنتاج والفرجة السينمائية في ايران قبل الحكم المتأسلم الا انه بعد الثورة المعروفة بالإسلامية تعطل الإنتاج السينمائي لمدة عشرة سنوات تقريبا علق كيروستامي وكثير من السينمائيين و المخريجين خلالها إنتاج أفلامهم.

عباس كياروستامي فى كواليس احد اعماله

تعتبر هذه العشر سنوات بمثابة الموقف الوطني الجماعي للمخرجين السينمائيين في محاولة فهم مسار الثورة الإيرانية وفي ما سيترتب عيها من إجراءات سياسية خاصة التي قد تعطل الإنتاج السينمائي حيث ان تلك النظم والعديد من الأطراف المتشددة تعتبر السينما خروج عن الدين وهم من تسببوا في حرق عديد من قاعات السينما في ايران خلال تلك الفترة.في غضون هذه العشرية لم يفكر"كيروستامي"في الخروج من ايران أو في التمرد على سياسة النظام الجديد.

واعتبر ان السينما يجب ان تكون محلية أي نابعة من ثقافة وهوية الشعب الإيراني وأن السينما هي صورة واقع الشعب الإيراني.ويعتبر "كيروستامي"ان الثقافة والواقع الإيراني مادة ثرية فكريا وعمليا من أجل انتاج الأفلام السينمائية.في هذه الفترة كرس"كيروستامي"وقته للتصوير الفوتوغرافي الذي توغل من خلاله في الطبيعة وفي سحر الجمال الطبيعي لبلده.

وتعتبر هذه العشرية بالنسبة له ولعديد من المخرجين عشرية المقاومة والبحث،أي العشرية التي جعلت من السينما الإيرانية فيما بعد ممكنة بكل ذاك الزخرف الفارسي الجميل الذي رسمته السينما الإيرانية فيما بعد والذي أبهرت به العالم وحازت به ومن خلاله عديد الجوائز في المهرجانات العالمية والذي رسم صورة أخرى لإيران خارج حدود السياسات البائسة التي تصنفها الدول حسب المصالح والاجندات الدولية.

عباس كياروستامي فى مهرجان كان

لقد قاوم"كيروستامي"في تلك الفترة ضغط الأوضاع الداخلية لنظام سياسي صارم وحديث النشأة إضافة الى ضعف الدعم ونقص الإمكانيات وضغط خارجي عالمي والذي رسم لإيران صورة ملطخة بالعنف الدموي والعنف السياسي من جهة وبالوفرة الإنتاجية السينمائية العالمية الذي يجعل من المخرج يفكر دائما في خصوصية المشروع الذي يروم رسمه في خضم هذه الساحة العالمية ليجد في إرثه الروحي الفارسي المنهل لسينما أثبتت للعالم إمكانية الحياة بل وبشاعرية وجمالية الحياة رغم كل ما يحدث على ارض الاحداث.هنا تكمن سياسة"كيروستامي"بوصفه مثقف حيث كشف عن صورة المثقف الحقيقي في شعبه ولدولته الذي يسعى الى ان يكون مجددا وباحثا متميزا عن مكامن الحياة وسبل الممكن داخل كل الازمات التي يعيشها المجتمع.

عباس كياروستامي

بين أفلام سينما قبل الثورة الإيرانية وأفلام الدفاع المقدس لفترة الثمانيات آبان الحرب مع العراق و أفلام ما بعد الثورة والحرب، لم تكن السينما الإيرانية بمعزل عن الاحداث السياسية بل لقد مثلت عنصر التأثير الجماهيري الكبير على المجتمع الإيراني و المجتمع العالمي.فلئن مثلت الدافع الأساسي للوعي الجماهيري الكبير في نشوء الثورة ضد نظام الشاه فإنها مثلت شكلا من الدفاع المقدس على ايران في الخارج بداية من التسعينات والتي انتهت في السنوات الماضية الى العودة على البدء أي العودة الى حلقة التمرد على النظام و الوعي بالأزمة التي يعيشها شعب يختنق من فرط إنحباس الحريات وهي وضعية تعيدنا الى بعض أفلام السبعينات في السينما الإيرانية.

وعلى شاكلة ما نراه اليوم في أفلام المخرج الإيراني"محمد رسولوف"من استعمال صورة الثعلب في أفلامه فإنها صورة تعتبر كلاسيكية في السينما الإيرانية تعود بالأساس الى فيلم البقرة لمهجوري ولكنها تعود أيضا الى فيلم قصير يعود لبدايات المخرج الإيراني"عباس كيروستامي"و هو فيلمه "خبز وزقاق"، وبين الماضي و الحاضر بين البقرة والكلب والثعلب لا تزال السينما الإيرانية تتخبط في ايدي نظام لا يقهر.

لقطة من فيلم "خبز وزقاق"

من المعروف أن"كياروستامي"بدأ مسيرته السينمائية بفيلمه القصير"خبز وزقاق"و إن كان هو نفسه يعتبر أن هذا الفيلم بداية لمخرج لم يعرف بعد تقنيات السينما لأنه قد اعتمد في عمله علي مصور حرفي وحيد في حين كان كل فريق العمل حينها غير محترف لذلك كان المصور كثير التذمر من عدم معرفة"عباس كياروستامي"وفريقه بالعمل السينمائي إلا أن الفيلم يعتبر من أهم أفلامه،و نجزم بأنه تحفة فنية تلخص كل ما يحدث فنجد به الصيغة الرسمية التي تكررت فيما بعد في أفلام"كياروستامي"بأشكال مختلفة ومع شخصيات مختلفة،ليس ذلك فحسب بل ان بنية الفيلم ترتقي الى مرتبة الفيلم الوثائقي لمرحلة كاملة من الحياة الإجتماعية والسياسية للشعب الإيراني بل تلخص ماضيه و حاضره.

يدور الفيلم حول طفل صغير يعود الى منزله فيجد كلب أمام باب منزله فلا يستطيع الدخول للمنزل،كما لم يلقى العون من المارة، بقي الطفل ثابتا،شجاعا،يرسل بنظرة ثاقبة للكلب،لم يصدر صوتا، لم يستعطف أحدا،لم يتحرك من مكانه ككل الأطفال الأبطال في أفلام و"كياروستامي"تمتع ذلك الطفل بقوة الصمود أمام العنصر المعرقل للإستمرار.يقول(الان برقالا)"يحتاج الطفل الى الترتيب"وخطة للعبور.يعبر"كياروستامي"من خلال ذلك الطفل عن وضعية حرجة،عدو يتربص في زقاق.

وطفل برئ يريد دخول بيته فحسب.هناك ثلاث عناصر للفيلم:الطفل والبيت ثم الكلب،يحيل الطفل الى البراءة،يحيل البيت الى الطمأنينة والامن فى حين يحيل الكلب الى الدهاء والمكر والخوف:كل المعاني بينة في الفيلم لكنها تحيل على معنى أساسي وهو معنى العبور:كيف نمر؟ كيف نصل الى الضفة الآمنة من الحياة؟كيف يستطيع الأعزل العبور؟لا يتطلب الأمر من خلال فيلم"كياروستامي"سوى الصمود والشجاعة الفردية والجرأة إزاء أي خطر من أجل بلوغ الحرية،الاستقرار و الأمان.

ينطوي هذا الفيلم تحت مفهومين أساسين وهما الحرية والخوف:يتميز القسم الأول من الفيلم بحيوية الحركة يدفع الطفل بقنينة فارغة و كأنه يلعب بكرة القدم ترافقه موسيقى تعبر عن السعادة والنشاط وهو قسم يعبر عن الحرية حيث استمرارية الحركة وعندما يبدأ الكلب بالنباح يتوقف الطفل عن اللعب وتتوقف الموسيقى أيضا ليبدأ القسم الثاني من الفيلم بنباح الكلب ومرور صاحب الحمار،يفرك الطفل عينيه معلنا ضرورة يقظته من أجل البحث عن طريق للعبور.

فيبدأ في الترصد لطريقة مناسبة للعبور،يمر رجل عجوز ولا ينقظه من ورطته بل يدخل العجوز بيته ويترك الطفل وحيدا أمام عدوه فيعاود الطفل الكرة مرة أخرى لكن الكلب ينبح من جديد فيرمى له بعض الفتات فيلحق به معلنا المرحلة الأخيرة من الفيلم وهي المرحلة التي يصبح فيها الطفل والكلب صديقين أو متوافقين ويتحركان في إتجاه واحد ويدخل الطفل للبيت فى حين يبقى الكلب أمام البيت يحرس بيت الصبي ترافق هذا المشهد موسيقى أعلنت توافق الطرفين لينتهي الفيلم بموسيقى حزينة حيث تركز كاميرا"كياروستامي"على صورة الكلب أمام الباب. وينتهي الفيلم بالتوافق بين الحرية و الأمان.

ان فيلم"خبز وزقاق"محفوف بدلالات كبيرة حول كلمة"الخبز"فلماذا الخبز بالأساس،يحيل الخبز الى احدى ضروريات الحياة وهي الغذاء بوصفه يلعب دورا أساسيا في حياة الانسان فالغذاء بالنسبة للإنسان يمثل الحياة الكريمة بالنسبة لعموم المجتمع ولكل فئاته وهو يرتبط أيضا في مفاهيم التقويم الدولي بتحقيق الأمن الغذائي لدى الشعوب والمجتمعات فالعودة بالخبز لسكان البيت في هذا الفيلم تشبه تحقيق الأمن الغذائي بالنسبة للشعوب التي تعاني غيابه فتصاب بالمجاعات فى حين أن هناك دولا أخرى تتمتع بالفائض الغذائي .

لقطة من فيلم "خبز وزقاق"

يحمل الطريق في سينما"كياروستامي"منذ بداية تجربته السينمائية دلالات خاصة و ان دلت على الإستمرارية فإنه يدل أيضا على البحث عن سبيل للعبور الى جهة أخرى،لنجيز القول أن مفهوم الطريق و الطفل في سينما"كياروستامي"مرتبطان ارتباط الوجه و القفا فهو زقاق في هذا الفيلم وهو جسر صغير يعبر منه كل أطفال القرية السوداء في فيلم"ستحملنا الريح"وهو طريق فوق تلة يربط بين قريتي بوشتيه و كوكر في فيلم"أين منزل صديقي"ولكن على إختلاف أشكال الطريق فإن أبطال "كياروستامي"يستطيعون العبور دائما الى حيث يريدون والرابط بين الطرق جميعا هو البحث عن سبل للنجاة او للهروب من المدينة المهددة بكل أشكال السلطة.

لئن اكتشفنا في الأفلام الطويلة لـ"عباس كيروستامي"عن رؤى فكرية،فلسفية ووجودية عميقة إلا اننا هاهنا سنكشف مع الأفلام القصيرة عن الأبعاد السياسية لسينما كيروستامي وكأن"كياروستامي":يقول"أن كل الازمات السياسية بحاجة الى أشياء صغيرة لتنتهي"ففي هذا الفيلم يعبر"كياروستامي"عن معاني الوحدة والإستقلالية فلم يستنجد الطفل بالمارة ولم ينجده أحد ولم يعبر إلا عند وضوح رؤيته الخاصة والذاتية.هنا تكمن طرافة الإشتغال على المسألة السياسية في الأفلام القصيرة لـ"كيروستامي"لأنها تجسد إمكانية تبسيط المعضلات والاحراجات السياسية التي يعيشها الانسان .

لقد عبرت أفلامه عن مصلحات سياسية عميقة وجذرية إرتبطت بواقع الحياة السياسية في ايران بين طفل لا يستطيع الدخول الى البيت نظرا لخوفه من كلب شرس يمنعه من الدخول وبين لامبالاة راكب الحمار والعجوز وبين فتاة ترفض قص شعرها أو بين معلم عجوز يسكن في برجه العالي وينزع سماعاته فلا يسمع ضجيج التلاميذ الذين أقبلوا بكثافة في الأسفل أو بين صديقين يتشاجران في القسم لأجل ورقة ممزقة من دفتر احداهما فحين انه يمكنهما ان يختارا حل أفضل لهما ويبقيا صديقين الى الأبد.

لقطة من فيلم "خبز وزقاق"

لقد عبرت الأفلام القصيرة عن حاجة دفينة لدى الفنان الإيراني بالتغيير وبأن هناك أزمة حقيقة تطال كل زوايا الحياة.يقول(جيل دولوز)"تظهر الصورة البصرية بنية مجتمع ما ووضعه والتصرفات و الأدوار و الأفعال لدى الأفراد و بوجيز العبارة تظهر الشكل و المضامين"وهو ما تحقق لنا من خلال مشاهدة الأفلام الإيرانية التي كشفت عن حقيقة الوضع في العشريات الأخيرة من القرن الماضي بما فيها من توترات وضغوطات.فتحولت السينما الى نوع من الوثيقة المشفرة لحياة الشعب الإيراني.

إجمالا بين كلب"عباس كياروستامي"وثعلب"محمد رسولوف" يمكننا أن نسأل هل قدر السينما الإيرانية أن تلاعب العدو بالمجازات؟



Italian Trulli